فصل: تفسير الآيات رقم (55- 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار وذلك أنه كان يختلف إلى أرض فارس والحيرة ويسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار وأحاديث العجم وكان يمر بالعباد من اليهود والنصارى فيراهم يقرؤون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون ويبكون فلما جاء مكة وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه وهو يقرأ ويصلي‏.‏ فقال النضر بن الحارث‏:‏ قد سمعنا يعني مثل هذا الذي جاء به محمد لو نشاء لقلنا مثل هذا فذمهم الله بدفعهم الحق الذي لا شبهة فيه بادعائهم الباطل بقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا بعد التحدي وأبان عجزهم عن ذلك ولو قدروا ما تخلفوا عنه وهم أهل الفصاحة وفرسان البلاغة فبان بذلك كذبهم في قولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا ‏{‏إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ يعني أخبار الماضين‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ نزلت في النضر بن الحرث أيضاً‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر بن الحرث‏:‏ لو شئت لقلت مثل هذا فقال له عثمان بن مظعون‏:‏ اتق الله فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول الحق قال وأنا أقول الحق‏.‏ قال‏:‏ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول لا إله إلا الله‏.‏ قال‏:‏ وأنا أقول لا إله إلا الله‏.‏ ولكن هذه بنات الله، يعني الأصنام، ثم قال‏:‏ اللهم إن كان هذا هو الحق يعني القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ يعني إن كان الذي يقول محمد صلى الله عليه وسلم من أمر التوحيد وادعاء النبوة وغير ذلك هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء يعني كما أمطرتها على قوم لوط أو ائتنا بعذاب أليم‏:‏ يعني مثل ما عذبت به الأمم الماضية، في النضر بن الحرث نزل سأل سائل بعذاب واقع‏.‏ قال عطاء‏:‏ لقد نزل في النضر بن الحرث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قال سعيد بن جبير‏:‏ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة من قريش صبرا طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحرث وروى أنس بن مالك أن الذي قال ذلك أبو جهل ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أنس قال‏:‏ قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية فنزلت وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية فلما أخرجوه نزلت وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدونهم عن المسجد الحرام‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏}‏ اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق‏:‏ هذه الآية متصلة بما قبلها وهي حكاية عن المشركين وذلك أنهم قالوا إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيها معها فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكره جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ‏{‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏ ثم قال تعالى رداً عليهم‏:‏ وما لهم ألا يعذبهم الله وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وهم يصدون عن المسجد الحرام‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخباراً عن نفسه تعالى وتقدس وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، واختلفوا في معناه فقال الضحاك وجماعة‏:‏ تأويلها‏:‏ وما كان الله ليعذبهم وأنت يا محمد مقيم فيهم بين أظهرهم‏.‏ قالوا‏:‏ نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة ثم لما خرج منها بقي بقية من المسلمين يستغفرون، فأنزل الله عز وجل وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ثم لما خرج أولئك المسلمون من بين أظهر الكافرين أذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لم يعذب الله قرية حتى يخرج نبيها منها والذين آمنوا معه ويلحق بحيث أمر فقال الله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله لهم ومالهم ألا يعذبهم الله، وقال بعضهم‏:‏ هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد فراغهم من الطواف غفرانك غفرانك‏.‏ وقال زيد بن رومان‏:‏ قالت قريش اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال الله تعالى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏.‏ وقال قتادة والسدي‏:‏ معناه وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون أي لو استغفروا ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقروا بالذنب واستغفروا الله لكانوا مؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ هذا دعاء لهم إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، كالرجل يقول لعبده لا أعاقبك‏.‏ وأنت تطيعني أي أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ وهم يستغفرون أي يسلمون‏.‏ يعني‏:‏ لو أسلموا لما عذبوا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وفيهم من سبق له من الله العناية أنه يؤمن ويستغفر مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ وهم يستغفرون، أي وفي أصلابهم من يستغفر وقيل في معنى الآية‏:‏ إن الكفار لما بالغوا وقالوا إن كان محمد محقاً في قوله فأمطر علينا حجارة من السماء أخبر الله سبحانه وتعالى أن محمداً محق في قوله وأنه مع ذلك لا يمطر على أعدائه ومنكري نبوته حجارة من السماء ما دام بين أظهرهم وذلك تعظيماً له صلى الله عليه وسلم وأورد على هذا أنه إذا كانت إقامته مانعة من نزول العذاب بهم فكيف قال في غير هذه الآية قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فالجواب أن المراد من العذاب الأول هو عذاب الاستئصال والمراد من العذاب الثاني وهو قوله سبحانه وتعالى يعذبهم الله بأيديكم هو عذاب القتل والسبي والأسر وذلك دون عذاب الاستئصال‏.‏

قال أهل المعاني‏:‏ دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان سلامة من العذاب عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أنزل عليّ أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وما لهم ألا يعذبهم الله‏}‏ يعني أي شيء يمنعهم من أن يعذبهم يعني بعد خروجك من بين أظهرهم، لأنه سبحانه وتعالى بيَّن في الآية الأولى أنه لا يعذبهم وهو مقيم فيهم بين أظهرهم وبيَّن في هذه الآية أنه معذبهم‏.‏ ثم اختلفوا في هذا العذاب فقيل‏:‏ هو القتل والأسر يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به عذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال وأراد بالعذاب الثاني‏:‏ العذاب بالسيف‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وبهذا العذاب عذاب الآخرة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ الآية الأولى وهو قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم منسوخة بقوله وما لهم ألا يعذبهم الله وفيه بعد لأن الاخبار لا يدخلها النسخ ثم بين ما لأجله يعذبهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم يصدون عن المسجد الحرام‏}‏ يعني وهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالبيت وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ قال الحسن‏:‏ كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله عليهم بقوله وما كانوا أولياءه يعني ليسوا أولياء المسجد الحرام ‏{‏إن أولياؤه إلا المتقون‏}‏ يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك ‏{‏ولكن أكثرهم‏}‏ يعني المشركين ‏{‏لا يعلمون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية‏}‏ لما ذكر الله عز وجل أن الكفار ليسوا بأولياء البيت الحرام ذكر عقبة السبب في ذلك وهو أن صلاتهم عنده كانت مكاء وتصدية‏.‏ والمكاء في اللغة‏:‏ الصفير‏.‏ يقال‏:‏ مكا الطير يمكو إذا صفر والمكاء‏:‏ اسم طير أبيض يكون بالحجاز له صفير‏.‏ وقيل‏:‏ هو طائر يألف الريف سمي بذلك لكثرة مكائه يعني صفيره‏.‏

والتصدية‏:‏ التصفيق وفي أصله واشتقاقه قولان أحدهما‏:‏ أنه من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل كالمجيب للمتكلم ولا يرجع إلى شيء‏.‏ الثاني‏:‏ قال أبو عبيدة أصله تصددة فأبدلت الياء من الدال‏.‏ قال الأزهري‏:‏ والمكاء والتصدية، ليسا بصلاة، ولكن الله سبحانه وتعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية قال حسان بن ثابت‏:‏

صلاتهم التصدي والمكاء‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عيله وسلم في الطواف ويستهزؤون به ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون‏.‏ فالمكاء‏:‏ جعل الأصابع في الشدق، والتصدية‏:‏ الصفير‏.‏ وقال جعفر بن ربيعة‏:‏ سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله‏:‏ إلا مكاء وتصدية، فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيراً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قام رجلان عن يمينه يصفران ورجلان عن يساره يصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهم من بني عبد الدار‏.‏ فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول غيره كان نوع أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، وقول ابن عباس أصح، لأن الله سبحانه وتعالى سمى ذلك صلاة‏.‏

فإن قلت كيف سماها صلاة وليس ذلك من جنس الصلاة‏؟‏

قلت‏:‏ إنهم كانوا يعتقدون ذلك المكاء والتصدية صلاة فخرج ذلك على حسب معتقدهم وفيه وجه آخر وهو أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له فهو كقول العرب من كان السخاء عيبة فلا عيب له وقال سعيد بن جبير‏:‏ التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وعن الدين والصلاة فعلى هذا التصدية من الصد وهو المنع وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏ يعني عذاب القتل والأسر في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ يقال لهم في الآخرة فذوقوا العذاب ‏{‏بما كنتم تكفرون‏}‏ يعني بسبب كفرهم في الدنيا‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى عبادة الكفار البدنية وهي المكاء والتصدية، ذكر عقبها عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة‏.‏ وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلق وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، فكان يطعم كل واحد منهم الجيش في كل يوم عشر جزر وأسلم من هؤلاء‏:‏ العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكيم بن حزام‏.‏

وقال الحكم بن عتبة‏:‏ نزلت في أبي سفيان بن حرب حين أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية كل أوقية اثنان وأربعون مثقالاً‏.‏ وقال ابن أبزي‏:‏ استأجر أبو سفيان يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب‏.‏ وقيل‏:‏ استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من كنانة فقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ لما أصيب من أصيب من قريش يوم بدر ورجع أبو سفيان بعيره إلى مكة مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش قد أصيب أباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة‏.‏ فقالوا‏:‏ يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً‏.‏ بمن أصيب منافقيهم نزلت إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله أي ليصرفوا الناس عن الإيمان بالله ورسوله وقيل ينفقون أموالهم على أمثالهم من المشركين ليتقووا بهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ‏{‏فسينفقونها‏}‏ يعني أموالهم في ذلك الوجه ‏{‏ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون‏}‏ يعني ما أنفقوا من أموالهم يكون عليهم حسرة وندمة يوم القيامة لأن أموالهم تذهب ويغلبون ولا يظفرون بما يؤملون ‏{‏والذين كفروا‏}‏ يعني منهم لأن فيه من أسلم ولهذا قال والذين كفروا يعني من المنفقين أموالهم ‏{‏إلى جهنم يحشرون‏}‏ يعني يساقون إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏ليميز الله الخبيث من الطيب‏}‏ يعني ليفرق الله بين فريق الكفار وهم الفريق الخبيث وبين فريق المؤمنين وهم الفريق الطيب وهذا معنى قول ابن عباس فإنه قال‏:‏ يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة وقال‏:‏ ليميز العمل الخبيث من العمل الطيب فيجازي على العمل الخبيث النار وعلى العمل الطيب الجنة وقيل‏:‏ المراد به إنفاق الكفار في سبيل الشيطان وإنفاق المؤمنين في سبيل الله ‏{‏ويجعل الخبيث بعضه على بعض‏}‏ يعني بعضه فوق بعض ‏{‏فيركمه جميعاً‏}‏ يعني فيجمعه جميعاً ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكم ‏{‏فيجعله في جهنم‏}‏ يعني الخبيث ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المنفقين في سبيل الشيطان أو إلى الخبيث ‏{‏هم الخاسرون‏}‏ يعني أنهم خسروا الدنيا والآخرة لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يعني قل يا محمد ‏{‏للذين كفروا إن ينتهوا‏}‏ يعني عن الشرك ‏{‏يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ يعني ما قد مضى من كفرهم وذنوبهم قبل الإسلام ‏{‏وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين‏}‏ يعني في إهلاك أعدائه ونصر أوليائه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر ودخلوا في دين الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وشركهم وإن عادوا إلى الكفر وأصروا عليه فقد مضت سنة الأولين بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أن الإسلام يجب ما قبله وإذا أسلم الكافر لم يلزمه شيء من قضاء العبادات البدنية والمالية‏.‏ وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه يعني بذلك أنه ليس عليه ذنب‏.‏

قال يحيى بن معاذ الرازي‏:‏ التوحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر فأرجوا الله أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حتى لا يكون بلاء ‏{‏ويكون الدين كله لله‏}‏ يعني تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره، وقال قتادة‏:‏ حتى يقال لا إله إلا الله عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم وإليها عاد وقال محمد بن إسحاق في قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله يعني لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون التوحيد لله خالصاً ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد والشركاء ‏{‏فإن انتهوا‏}‏ يعني عن الشرك وإفتان المؤمنين وإيذائهم ‏{‏فإن الله بما يعملون بصير‏}‏ يعني فإن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ونياتهم حتى يوصل إليهم ثوابهم ‏{‏وإن تولوا‏}‏ يعني وإن أعرضوا عن الإيمان وأصروا على الكفر وعادوا إلى قتال المؤمنين وإيذائهم ‏{‏فاعلموا‏}‏ يعني أيها المؤمنون ‏{‏أن الله مولاكم‏}‏ يعني أن الله وليكم وناصركم عليها وحافظكم ‏{‏نعم المولى ونعم النصير‏}‏ يعني أن الله سبحانه وتعالى هو نعم المولى فمن كان في حفظه ونصره وكفايته وكلاءته فهو له نعم المولى ونعم النصير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏ الغنم الفوز بالشيء يقال يغنم غنماً فهو غانم واختلف العلماء هل الغنيمة والفيء اسمان لمسمى واحد أم يختلفان في التسمية فقال عطاء بن السائب‏:‏ الغنيمة ما ظهر المسلمون عليه من أموال المشركين فأخذوه عنوة وأما الأرض فهي فيء‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ الغنيمة ما أصاب المسلمون من مال الكفار عنوة بقتال وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن شهد الوقعة‏.‏ والفيء‏:‏ ما صولحوا عليه بغير قتال وليس فيه خمس فهو لمن سمى الله‏.‏ وقيل‏:‏ الغنيمة ما أخذ من أموال الكفار عنوة عن قهر وغلبة، والفيء‏:‏ ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب كالعشور والجزية وأموال الصلح والمهادنة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الفيء والغنيمة معناهما واحد وهما اسمان لشيء واحد، والصحيح أنهما يختلفان فالفيء ما أخذ من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب والغنيمة ما أخذ من أموالهم على سبيل القهر والغلبة بإيجاف خيل عليه وركاب فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الغنيمة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ يعني من أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فإن لله خمسه وللرسول‏.‏ وقد ذكر أكثر المفسرين والفقهاء أن قوله لله افتتاح كلام على سبيل التبرك وإنما أضافه لنفسه تعالى لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء وليس المراد منه أن سهماً منه لله منفرداً لأن الدنيا والآخرة كلها لله وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي قالوا‏:‏ سهم الله وسهم رسوله واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها وأحرزها والخمس الباقي لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ يقسم خمس الخمس على ستة أسهم سهم لله عز وجل فيصرف إلى الكعبة القول الأول أصح أي إن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان له في حياته واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام وهذا قول الشافعي وأحمد‏.‏ وروى الأعمش عن إبراهيم قال‏:‏ كان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو للخليفة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته مردود في الخمس فيقسم الخمس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولذي القربى‏}‏ يعني أن سهماً من خمس الخمس لذوي القربى وهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيهم فقال قوم هم جميع قريش وقال قوم هم الذين لا تحل لهم الصدقة وقال مجاهد وعلي بن الحسين‏:‏ هم بنو هاشم‏.‏

وقال الشافعي رحمه الله تعالى‏:‏ هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء وإن كانوا إخوة ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم «قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد «وفي رواية‏:‏» أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا «وفي رواية قال جبير‏:‏ ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئاً أخرجه البخاري وفي رواية أبي داود» أن جبير بن مطعم جاء هو وعثمان بن عفان يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقسم من الخمس في بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً وقرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد «وفي رواية النسائي قال لما كان يوم خيبر رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم أم لا فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطي فقراؤهم وأغنياؤهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الأنثيين وهو قول مالك والشافعي وهذب أبو حنيفة وأصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت قالوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردود في الخمس فيقسم خمس الغنيمة على ثلاث أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل فيصرف إلى فقراء ذوي القربى مع هذه الأصناف دون أغنيائهم وحجة الجمهور أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وكذا الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطون ذوي القربى ولا يفضلون فقيراً على غني، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله وكذا الخلفاء بعده كانوا يعطونه وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنهم يعطون القريب والبعيد قال ويفضل الذكر على الأنثى فيعطى الذكر سهمين والأنثى سهماً‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏واليتامى‏}‏ جمع يتيم يعني ويعطى من خمس الخمس لليتامى، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم الذي لا أب له فيعطى مع الحاجة إليه ‏{‏والمساكين‏}‏ وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر البعيد عن ماله فيعطى من خمس الخمس مع الحاجة فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماسها الباقية بين الغانمين الذين شهدوا الواقعة وحازوا الغنيمة فيعطى للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، ويعطى الراجل سهماً واحداً لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهماً‏.‏ وفي رواية نحوه بإسقاط لفظ النفل أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ وفي رواية أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهماً له وسهمين لفرسه وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ للفارس سهمان وللراجل سهم ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ويقسم العقار الذي استولى عليه السملمون كالمنقول وعند أبي حنيفة يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقفاً على المصالح وظاهر الآية يدل على أنه لا فرق بين العقار والمنقول ومن قتل من المسلمين مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» أخرجه الترمذي وأخرجه البخاري ومسلم في حديث طويل والسلب كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح والفرس الذي كان راكبه ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب يخصهم به من بين سائر الجيش ثم يجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش

عن حبيب بن سلمة الفهري، قال‏:‏ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الرابع في البدأة والثلث في الرجعة أخرجه أبو داود واختلف العلماء في أن النفل من أين يعطى فقال قوم من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي‏.‏ وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت قال‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر وبرة من جنب بعير فقال‏:‏ يا أيها الذين أنه لا يحلى لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم أخرجه النسائي‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو من الأربعة الأخماس بعد إقرار الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏ وذهب قوم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل التخميس كالسلب للقاتل وأما الفيء، وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب بأن صالحهم على ما يؤدونه، وكذلك الجزية وما أخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له فهذا كله فيء ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة حياته‏.‏ وقال عمر‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يخص به أحداً غيره ثم قرأ عمر‏:‏ وما أفاء الله على رسوله منهم الآية فكانت هذه لرسول الله خالصة وكان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله في الكراع والسلاح واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة الذين أثبتت أسماؤهم في ديوان الجهاد لأنهم هم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو‏.‏ والقول الثاني‏:‏ إنه لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم فالأهم من المصالح واختلف أهل العلم في تخميس الفيء فذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى أنه يخمس وخمسه لأهل الخمس من الغنيمة على خمسة أسهم وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل يصرفه جميعه مصرفاً واحداً ولجميع المسلمين فيه حق‏.‏ عن مالك بن أنس قال‏:‏ ذكر عمر يوماً الفيء منكم ما أنا أحق بهذا الفيء منكم وما أحد منا أحق به الآخر إلا أنا على منازلنا من كتاب الله وقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمه والرجل وعياله والرجل وحاجته أخرجه أبو داود وأخرج البغوي بسنده عنه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول‏:‏ ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏ يعني واعملوا أيها المؤمنون أن خمس الغنيمة مصروف إلى ما ذكر في هذه الآية من الأصناف فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بأربعة أخماس الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله وصدقتم بوحدانيته ‏{‏وما أنزلنا على عبدنا‏}‏ يعني وآمنتم بالمنزل على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا إضافة تشريف وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم والذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يسألونك عن الأنفال ‏{‏يوم الفرقان‏}‏ يعني يوم بدر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يوم الفرقان يوم بدر فرق الله عز وجل بين الحق والباطل ‏{‏يوم التقى الجمعان‏}‏ يعني جميع المؤمنين وجميع الكافرين وهو يوم بدر وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو لسبع عشرة من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله المشركين وقتل منهم زيادة على سبعين وأسر منهم مثل ذلك ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ يعني على نصركم أيها المؤمنون مع قلتكم وكثرة أعدائكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إذ أنتم‏}‏ أي اذكروا نعمة الله عليكم يا معشر المسلمين إذ أنتم ‏{‏بالعدوة الدنيا‏}‏ يعني بشفيرالوادي الأدنى من المدينة والدنيا هنا تأنيث الأدنى ‏{‏وهم‏}‏ يعني المشركين ‏{‏بالعدوة القصوى‏}‏ يعني بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة والقصوى تأنيث الأقصى ‏{‏والركب أسفل منكم‏}‏ يعني أبا سفيان وأصحابه وهم غير قريش التي خرجوا لأجلها وكانوا في موضع أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر ‏{‏ولو تواعدتم‏}‏ يعني أنتم والمشركون ‏{‏لاختلفتم في الميعاد‏}‏ وذلك لأن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها من المسلمين فالتقوا على غير ميعاد والمعنى ولو تواعدتم أنتم والكفار على القتال لاختلفتم أنتم وهم لقلتكم وكثرة عدوكم ‏{‏ولكن‏}‏ يعني ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ‏{‏ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ يعني من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وأعداء دينه ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة‏}‏ يعني ليموت من مات عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليها ‏{‏ويحيى من حي عن بينة‏}‏ يعني ويعيش من عاش عن بينة رآها وعبرة شاهدها وحجة قامت عليه وقال محمد بن إسحاق‏:‏ معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك لأن الهلاك هو الكفر الحياة هي الإيمان ونحوه قال قتادة ليضل من ضل على بينه ويهتدي من اهتدى على بينة ‏{‏وإن الله لسميع عليم‏}‏ يعني يسمع دعاءكم ويعلم نياتكم ولا تخفى عليه خافية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ يريكهم الله‏}‏ يعني‏:‏ واذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ يريك المشركين ‏{‏في منامك‏}‏ يعني في نومك ‏{‏قليلاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أراهم الله في منامه قليلاً فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك وكان ذلك تثبيتاً‏.‏ وقال محمد بن إسحق‏:‏ فكان ما أراه الله من ذلك نعمة من نعمه عليهم يشجعهم بها على عدوهم، فكف عنهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ لما أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه قالوا‏:‏ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق فصار ذلك سبباً لجراءتهم على عدوهم وقوة لقلوبهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن هذه الإراءة كانت في اليقظة‏.‏ والمراد من المنام، العين، لأنها موضع النوم ‏{‏ولو أراكهم كثيراً لفشلتم‏}‏ يعني لجبنتم والفشل ضعف مع جبن والمعنى ولو أراكهم كثيراً فذكرت ذلك لأصحابك لفشلوا وجبنوا عنهم ‏{‏ولتنازعتم في الأمر‏}‏ يعني اختلفتم في أمر الإقدام عليهم أو الإحجام عنهم وقيل معنى التنازع في الأمر الاختلاف الذي تكون معه مخاصمة ومجادلة ومجادلة كل واحد إلى واحد إلى ناحية والمعنى‏:‏ لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم ‏{‏ولكن الله سلم‏}‏ يعني‏:‏ ولكن الله سلمكم من التنازع والمخالفة فيما بينكم‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ولكن الله سلمكم من الهزيمة والفشل ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ يعني أنه تعالى يعلم ما يحصل في الصدور من الجراءة والجبن والصبر والجزع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أنه عليم بما في صدوركم من الحب لله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً‏}‏ يعني أن الله سحبانه وتعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم بدر لما التقوا في القتال ليتأكد في اليفظة ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأخبر به أصحابه قال ابن مسعود‏:‏ لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال‏:‏ أراهم مائة فأسرنا رجلاً منهم فقلنا كم كنتم قال‏:‏ كنا ألفاً‏.‏ ويقللكم في أعينهم يعني ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعين المشركين‏.‏ قال السدي‏:‏ قال ناس من المشركين إن العير قد انصرف فارجعوا فقال أبو جهل الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتى نستأصلهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني لقلتهم في عينيه ثم قال‏:‏ فلا تقتلوهم واربطوهم في الحبال يقوله من القدرة التي في نفسه والحكمة في تقليل المشركين في أعين المؤمنين تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ولتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم عليهم ولا يجبنوا عند قتالهم والحكمة في تقليل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم فيكون ذلك سبباً لظهور المؤمنين عليهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل‏؟‏

قلت‏:‏ ذلك ممكن في القدرة الإلهية فإن الله سبحانه وتعالى على ما يشاء قدير ويكون ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة من خوارق العادات فلا ينكر ذلك ‏{‏ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ يعني أمراً كان كائناً من إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله وإذلال كلمة الشرك وخذلان أهله فإن قلت‏:‏ قد قال في الآية المتقدمة ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وقال في هذه الآية ليقضي الله أمراً كان مفعولاً فما معنى هذا التكرار‏؟‏

قلت‏:‏ المقصود من ذكره في الآية المتقدمة ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه القهر والغلبة ليكون ذلك معجزة دالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود من ذكره في هذه الآية لأنه تعالى قلل عدد الفريقين في أعين بعضهم بعضاً للحكمة التي قضاها فلذلك قال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ يعني في الآخرة فيجازى كل عامل على قدر عمله فالمحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يغفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة‏}‏ يعني جماعة كافرة ‏{‏فاثبتوا‏}‏ يعني لقتالهم وهو أن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله ولا يحدثوها بالتوالي ‏{‏واذكروا الله كثيراً‏}‏ يعني كونوا ذاكرين الله عند لقاء عدوكم ذكراً كثيراً بقلوبكم وألسنتكم أمر الله عباده المؤمنين وأولياءه الصالحين بأن يذكروه في أشد الأحوال وذلك عند لقاء العدو وقتاله، وفيه تنبيه على أن الإنسان لا يجوز أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من هذا الذكر هو الدعاء بالنصر على العدو وذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يسألوه النصر على العدو عند اللقاء ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ يعني‏:‏ وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفرة‏.‏

فإن قلت‏:‏ ظاهر الآية يوجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز‏.‏

قلت المراد من الثبات هو الثبات عند المحاربة والمقاتلة في الجملة وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز ثم قال تعالى مؤكداً لذلك ‏{‏وأطيعوا الله ورسوله‏}‏ يعني في أمر الجهاد والثبات عند لقاء العدو ‏{‏ولا تنازعوا فتفشلوا‏}‏ يعني‏:‏ ولا تختلفوا فإن التنازع والأختلاف يوجب الفشل والضعف والجبن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتذهب ريحكم‏}‏ يعني قوتكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نصرتكم‏.‏ قال‏:‏ وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد‏.‏ وقال السدي‏:‏ جراءتكم وجدكم وقال مقاتل‏:‏ حدتكم وقال الأخفش وأبو عبيدة‏:‏ دولتكم‏.‏ والريح هنا كناية في نفاذ الأمر وجريانه على المراد‏.‏ تقول العرب‏:‏ هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد وقال قتادة وابن زيد‏:‏ هي ريح النصر ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور‏.‏

وعن النعمان بن مقرن قال‏:‏ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر أخرجه أبو داود‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏واصبروا‏}‏ يعني عند لقاء عدوكم ولا تنهزموا عنهم ‏{‏إن الله مع الصابرين‏}‏ يعني بالنصر والمعونة ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال‏:‏ أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وأسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً‏}‏ يعني فخراً وأشراً‏.‏ وقيل‏:‏ البطر‏:‏ الطغيان في النعمة وذلك أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن فذلك هو البطر في النعم وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها، وهذا معنى قول الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها ‏{‏ورئاء الناس‏}‏ الرياء إظهار الجميل ليراه الناس مع إبطال القبيح والفرق بين الرياء والنفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والرياء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية ‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏ يعني ويمنعون الناس عن الدخول في دين الله نزلت هذه الآية في كفار قريش حين خرجوا إلى بدر ولهم فخر وبغي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني به»‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ إن أبا سفيان لما رأى أنه قد أحرز عيرة أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرجع حتى نرد بدراً وكان في بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق في كل عام قال فنقيم عليها ثلاثاً وننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً فأمضوا‏.‏ زاد غيره قال‏:‏ فلما وافوا بدراً سقوا كؤوس الحمام عوضاً عن الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم والمعنى لا يكونن أمركم أيها المؤمنون رياء وسمعة ولا لالتماس ما عند الله ولكن أخلصوا لله عز وجل النية وقاتلوا حسبة في نصر دينكم ومؤازرة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تعملوا إلا لذلك ولا تطلبوا غيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما يعلمون محيط‏}‏ فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى عالم بجميع الأشياء لا يخفى عن علمه شيء لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين قوله سبحانه تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏ يعني اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذا زين الشيطان يريد إبليس للمشركين أعمالهم الخبيثة ‏{‏وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم‏}‏ قال بعضهم‏:‏ كان تزيينه وسوسة ألقاها في قلوبهم من غير أن يتحول في صورة غير صورته‏.‏ وقال جمهور المفسرين‏:‏ تصور إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان تزيينه أن قريشاً لما أجمعت على المسير إلى بدر ذكرت الذي بينها وبين بكر بن الحرث من الحروب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشرف بين كنانة، فقال‏:‏ أنا جار لكم من أن يأتيكم من كنانة شيء تكرهونه فخرجوا سراحاً‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك بن جعشم فقال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين‏.‏ وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، لعنه الله فلما رآه وكانت يده في دي رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجال يا سراقة أتزعم أنك جار لنا‏؟‏ فقال‏:‏ إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة‏.‏ وقوله‏:‏ إني جار لكم، يعني مجير لكم من كنانة ‏{‏فلما تراءت الفئتان‏}‏ أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء فعلم عدو الله إبليس أنه لا طاقة له بهم ‏{‏نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم‏}‏ يعني رجع القهقرى وولى مدبراً هارباً على قفاه، وقال الكلبي‏:‏ لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو آخذ بيد الحرث بن هشام فنكص عدو الله إبليس على عقبيه فقال له الحرث‏:‏ أفراراً من غير قتال‏؟‏ وجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق فانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة‏.‏ فبلغ ذلك سراقة فقال‏:‏ بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم‏.‏ فقالوا‏:‏ أما أتيتنا في يوم كذا وكذا فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان شيطاناً قال الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إني أرى ما لا ترون‏}‏ قال‏:‏ رأى إبليس جبريل عليه السلام معتجراً ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قال إبليس إني أرى ما لا ترون وصدق وقال‏:‏ إني أخاف الله وكذب ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منفعة فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه إذ التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقيل إنه خاف أن يهلك فيمن هلك وقيل خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله فلا يطيعوه وقيل معناه ‏{‏إني أخاف الله‏}‏ أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمر ربه وقيل لما رأى الملائكة قد نزلت من السماء خاف أن تكون القيامة ‏{‏والله شديد العقاب‏}‏ قيل معناه إني أخاف الله لأنه شديد العقاب فعلى هذا يكون من تمام قول إبليس‏.‏

وقيل‏:‏ تم كلامه عند قوله‏:‏ إني أخاف الله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ والله شديد العقاب ابتداء كلام‏.‏ يقول الله سبحانه وتعالى‏:‏ والله شديد العقاب لمن خالف الله وكفر به‏.‏ عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة» أخرجه مالك في الموطأ‏.‏ قوله‏:‏ ولا أدحر هو بالدال والحاء المهملتين من الدحور، وهو الإبعاد والطرد مع الإهانة‏.‏ وقوله‏:‏ يزع الملائكة، أي يكفهم ويحبسهم لئلا يتقدم بعضهم على بعض‏.‏ والوازع‏:‏ هو الذي يتقدم ويتأخر في الصف ليصلحه‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً‏؟‏

قلت‏:‏ إن الله عز وجل أعطاه قوة وأقدره على ذلك كما أعطى الملائكة قوة أقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنة لم تتغير فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ يقول المنافقون‏}‏ يعني من أهل المدينة ‏{‏والذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي شك وارتياب وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقو الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن فلما خرج كفار قريش إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم إلى بدر فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا ‏{‏غر هؤلاء دينهم‏}‏ يعني أن هؤلاء نفر قليلون يقاتلون أضعافهم فقد غرهم دينهم الإسلام على ذلك وحملهم على قتل أنفسهم رجاء الثواب في الآخرة فقتلوا جميعاً يوم بدر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إن فئة من قريش وهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ غر هؤلاء دينهم ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله‏}‏ يعني ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسانه ‏{‏فإن الله‏}‏ حافظه وناصره لأنه ‏{‏عزيز‏}‏ لا يغلبه شيء ‏{‏حكيم‏}‏ فيما قضى وحكم فيوصل الثواب إلى أوليائه والعقاب إلى أعدائه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة‏}‏ يعني‏:‏ ولو عاينت يا محمد وشهدت إذا تقبض الملائكة أرواح الذين كفروا عند الموت لرأيت أمراً عظيماً ومنظراً فظيعاً وعذاباً شديداً ينالهم في ذلك الوقت ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ اختلفوا في وقت هذا الضرب، فقيل‏:‏ هو عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذين قتلوا يوم بدر من المشركين كانت الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف وإذا ولوا أدبارهم ضربت الملائكة أدبارهم‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ يريد، ما أقبل من أجسادهم وأدبر يعني يضربون جميع أجسادهم ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ يعني وتقول لهم الملائكة عند القتل‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ قيل‏:‏ كان مع الملائكة مقامع من حديد محمية بالنار يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تقول لهم الملائكة ذلك بعد الموت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هذا يوم القيامة تقول لهم الزبانية ذوقوا عذاب الحريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ يعني الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق ‏{‏بما قدمت أيديكم‏}‏ يعني إنما حصل لكم ذلك بسبب ما كسبت أيديكم من الكفر والمعاصي‏.‏

فإن قلت‏:‏ اليد ليست محلاً للكفر وإنما محله القلب لأن الكفر اعتقاد والاعتقاد محله القلب وظاهر الآية يقتضي أن فاعل هذا الكفر هي اليد وذلك ممتنع‏.‏

قلت‏:‏ اليد هنا عبارة عن القدرة لأن اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل فاليد كناية عن القدرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يعذر أحداً من خلقه إلا بجرم اجترمه لأنه لا يظلم أحداً من خلقه وإنما نفى الظلم عن نفسه مع أنه يعذب الكافر على كفره والعاصي على عصيانه لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء ومن كان كذلك استحال نسبة الظلم إليه فلا يتوهم متوهم أنه سبحانه وتعالى مع خلقه كفر الكافر وتعذيبه عليه ظالم فلهذا قال الله سبحانه وتعالى وأن الله ليس بظلام للعبيد لأنهم في ملكه وتحت قدرته فهو يتصرف فيهم كيف يشاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ يعني أن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا وكذا يداوم عليه ويتعب نفسه فيه ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان يداوم على عادته ويواظب عليها‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ معناه أن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبي من الله تعالى فكذبوه فكذلك هؤلاء لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق كذبوه فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون ‏{‏والذين من قبلهم‏}‏ يعني من قبل آل فرعون ‏{‏كفروا بآيات الله‏}‏ يعني أن عادة الأمم السالفة هو كفرهم بآيات الله ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ يعني بسبب كفرهم وذنوبهم ‏{‏إن الله قوي‏}‏ يعني في أخذه وانتقامه ممن كفر به وكذب رسله ‏{‏شديد العقاب‏}‏ يعني لمن كفر به وكذب رسله ‏{‏ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‏}‏ يعني‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى أنعم على أهل مكة بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فقابلوا هذه النعمة بأن تركوا شكرها وكذبوا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وغيَّروا ما بأنفسهم فسلبهم الله سبحانه وتعالى النعمة وأخذهم بالعقاب قال السدي‏:‏ نعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم أنعم به على قريش فكفروا به وكذبوه فنقله الله تعالى إلى الأنصار ‏{‏وأن الله سميع‏}‏ يعني لأقوال خلقه لا يخفى عليه شيء من كلامهم ‏{‏عليم‏}‏ يعني بما في صدورهم من خير وشر، فيجازي كل واحد على عمله ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ يعني أن هؤلاء الكفار الذين قتلوا يوم بدر غيروا نعمة الله عليهم كصنيع آل فرعون ‏{‏والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم‏}‏ يعني‏:‏ أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ فكذلك أهكلنا كفار قريش بالسيف ‏{‏وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين‏}‏ يعني الأولين والآخرين، فإن قلت ما الفائدة في تكرير هذه الآية مرة ثانية‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ فيها فوائد منها الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول لأن الآية الأولى فيها ذكر أخذهم، وفي الآية الثانية ذكر إغراقهم، فهذه تفسير للأولى‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الأولى إشارة إلى أنهم أنكروا آيات الله وجحدوها، وفي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ أن تكرير هذه القصة للتأكيد وفي قوله ‏{‏كذبوا بآيات ربهم‏}‏ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن شر الدواب عند الله‏}‏ يعني في علمه وحكمه ‏{‏الذين كفروا فهم لا يؤمنون‏}‏ والمعنى أن شر الدواب من الإنس الكفار المصرون على الكفر نزلت في يهود بني قريظة رهط كعب بن الأشرف ‏{‏الذين عاهدت منهم‏}‏ قيل‏:‏ من صلة يعني الذين عاهدتهم وقيل‏:‏ هي للتبعيض لأن المعاهدة مع بعض القوم وهم الرؤساء والأشراف ‏{‏ثم ينقضون عهدهم في كل مرة‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قالوا نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضاً ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وهم لا يتقون‏}‏ يعني أنهم لا يخافون الله في نقض العهد لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقون بكلامه فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد فهو من شر الدواب ‏{‏فأما تثقفنهم في الحرب‏}‏ يعني فأما تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وتظفرن بهم في الحرب ‏{‏فشرد بهم من خلفهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه فنكل بهم من ورائهم‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ أنذر بهم من خلفهم وأصل التشريد في اللغة التفريق مع اضطراب ومعنى الآية إنك إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد فافعل بهم فعلاً من القتل والتنكيل تفرق به جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة واليمن ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ يعني لعل ذلك النكار يمنعهم من نقض العهد ‏{‏وإما تخافن‏}‏ يعني وإما تعلمن يا محمد ‏{‏من قوم‏}‏ يعني معاهدين ‏{‏خيانة‏}‏ يعني نقضاً للعهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر كما ظهر من بني قريظة والنضير ‏{‏فانبذ‏}‏ أي فاطرح ‏{‏إليهم‏}‏ يعني عهدهم ورام به إليهم ‏{‏على سواء‏}‏ يعني على طريق ظاهر مستو يعني أعلمهم قبل حربك إياهم إنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم ينقض العهد سواء فلا يتوهمون أنك نقضت العهد أولاً بنصب الحرب معهم ‏{‏إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ يعني في نقض العهد عن سليم بن عمر عن رجل من حمير قال‏:‏ كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول‏:‏ الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

«من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء»، فرجع معاوية أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عن سليم بن عامر نفسه بلا زيادة رجل من حمير وعنده الله أكبر مرة واحدة وفيه جاء على دابة أو فرس وأما حكم الآية فقال أهل العلم إذا ظهرت آثار نقض الهد ممن هادهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض استغنى الإمام عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب وإن ظهرت الخيانة بأمارات تلوح وتنضح له من غير أمر مستفيض فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم بالحرب وذلك لأن قريظة كانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فهاهنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويعلمهم بالحرب وأما إذا ظهر نقض العهد ظهروا مقطوعاً به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن‏}‏ قرئ بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى ولا تحسبن يا محمد ‏{‏الذين كفروا سبقوا‏}‏ يعني فاتوا وانهزموا يوم بدر وقرئ بالياء على الغيبة ومعناه ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا يعني خلصوا من القتل والأسر يوم بدر ‏{‏إنهم لا يعجزون‏}‏ يعني أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منهم فأعلمهم الله أنهم لا يعجزونه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏ الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه وفي المراد بالقوة أقوال أحدها‏:‏ أنها جميع أنواع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوة في الحرب على قتال عدوكم، الثاني‏:‏ أنها الحصون والمعاقل الثالث‏:‏ الرمي وقد جاءت مفسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول‏:‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ثلاثاً» أخرجه مسلم ‏(‏خ‏)‏ عن أبي أسيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوم بدر حين صففنا لقريش إذا أكثبوكم» يعني غشوكم وفي رواية أكثروكم فارموهم واستبقوا نبلكم وفي رواية «إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل» ‏(‏م‏)‏ عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» ‏(‏م‏)‏ عن فقيم اللخمي قال قلت لعقبة بن عامر تختلف بين هذين الغرضين وأنت شيخ كبير يشق عليك فقال عقبة لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أغانه قال قلت وما ذاك‏؟‏ قال سمعته يقول‏:‏ «من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى» عن أبي نجيح السلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من بلغ بسهم فهو له درجة في الجنة» فبلغت يومئذ عشرة أسهم قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر» أخرجه النسائي والترمذي بمعناه وعنده قال عدل رقبة محررة وأخرجه أبو داود أيضاً عن عقبة بن عامر بمعناه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله عز وجل ليدخلن بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في عمله الخير والرامي به والممد به» وفي رواية «ومنبله فارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا كل لهو باطل ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه أي نبله إنهن من الحق ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها»

أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي مختصر إلى نبله ‏(‏خ‏)‏‏.‏

عن سلمة بن الأكوع قال «مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً ارموا وأنا مع بني فلان «فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» ما لكم لا ترمون «‏؟‏ فقالوا‏:‏ كيف نرمي وأنت معهم‏؟‏ فقال‏:‏» ارموا وأنا معكم كلكم «القول الرابع‏:‏ أن المراد بالقوة جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو فكل ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوة المأمور باستعدادها وقوله صلى الله عليه وسلم» ألا أن القوة الرمي «لا ينفي كون غير الرمي من القوة فهو كقوله صلى الله عليه وسلم» الحج عرفة «وقوله‏:‏» الندم توبة «فهذا لا ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور من أفضل المقصود وأجله فكذا هاهنا يحمل معنى الآية على الاستعداد للقتال في الحرب وجهاد العدو بجميع ما يمكن من الآلات كالرمي بالنبل والنشاب والسيف والدرع وتعليم الفروسية كل ذلك مأمور به إلا أنه من فروض الكفايات وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن رباط الخيل‏}‏ يعني اقتناءها وربطها للغزو في سبيل الله والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ وسمي المكان الذي يخص بإقامة حفظة فيه رباطاً والمرابطة إقامة المسلمين بالثغور للحراسة فيها وربط الخيل الجهاد من أعظم من يستعان به‏.‏

روي أن رجلاً قال لابن سيرين‏:‏ إن فلاناً أوصى بثلث ماله للحصون فقال ابن سيرين‏:‏ يشتري به الخيل ويربطها في سبيل الله‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ القوة الحصون ومن رباط الخيل يعني الإناث ووجه هذا أن العرب تربط الأناث من الخيل بالأفنية للنسل‏.‏ وروي أن خالد بن الوليد كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها‏.‏ وعن ابن محيريز قال‏:‏ كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشنات والغارات‏.‏ وقيل‏:‏ ربط الفحول أولى من الإناث لأنها أقوى على الكر والفر والعدو فكانت المحاربة عليها أولى من الإناث وقيل إن لفظ الخيل عام فيتناول الفحول والإناث فأي ذلك ربط بنية الغزاة كان في سبيل الله ‏(‏ق‏)‏ عن عروة بن الجعد البارقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» الخيل معقود في نواصيها لخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة «‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

«الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله زاد في رواية لأهل الإسلام فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان لها حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت له آثارها وأرواثها حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك الرجل ستر ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر» وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال‏:‏ ما أنزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره الطيل الحبل الذي يشد به الفرس وقت الرعي واستنان الجري والشرف الشوط الذي تجري فيه الفرس وقوله تغنياً يعني استغناء بها عن الطلب لما في أيدي الناس أما حق ظهورها فهو أن يحمل عليها منقطعاً إلى أهله وأما حق رقابها فقيل‏:‏ أراد به الإحسان إليها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به الحمل عليها فعبر بالرقبة عن الذات وقوله‏:‏ نواء لأهل الإسلام النواء المعاداة يقال ناوأت الرجل مناوأة إذا عاديته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترهبون به عدو الله وعدوكم‏}‏ يعني‏:‏ تخوفون بتلك القوة وبذلك الرباط عدو الله وعدوكم يعني الكفار من أهل مكة وغيره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تحزنون به عدو الله وعدوكم وذلك لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات والحرب وإعداد الخيل مربوط للجهاد خافوهم فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرين من دونهم‏}‏ يعني وترهبون آخرين من دونهم اختلف العلماء فيهم فقال مجاهد‏:‏ هم بو قريظة، وقال السدي‏:‏ هم فارس وقال ابن زيد هم المنافقون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله ‏{‏الله يعلمهم‏}‏ يعني أنهم منافقون وأورد على هذا القول أن المنافقين لا يقاتلون لإظهارهم كلمة الإسلام فكيف يخوفون بإعداد القوة ورباط الخيل‏.‏ وأجيب عن هذا الإيراد أن المنافقين إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويحزنهم فكان في ذلك إرهابهم وقال الحسن‏:‏ هم كفار الجن وصحح هذا القول الطبري قال‏:‏ لأن الله تعالى قال لا تعملونهم ولا شك بأن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لعلمهم بأنهم مشركون ولأنهم حرب للمؤمنين أما الجن فلا يعلمونهم الله يعلمهم يعني يعلم أحوالهم وأماكنهم دونكم ويعضد هذا القول ما روي

«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هم الجن وأن الشيطان لا يخيل أحداً في داره فرس عتيق» ذكر هذا الحديث ابن الجوزي وغيره من المفسرين بغير إسناد وقال الحسن‏:‏ صهيل الخيل يرهب الجن‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء في سبيل الله‏}‏ قيل أراد به نفقة الجهاد والغزو وقيل هو أمر عام في كل وجوه الخير والطاعة فيدخل فيه نفقة الجهاد وغيره ‏{‏يوف إليكم‏}‏ يعني أجره في الآخرة ويعجل لكم عوضه في الدنيا ‏{‏وأنتم لا تظلمون‏}‏ يعني وأنتم لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها‏}‏ لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بإعداد القوة وما يرهب العدو أمرهم بعد ذلك أن يقبلوا منهم الصلح إن مالوا إليه وسألوه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم‏}‏ يعني مالوا إلى السلم يعني المصالحة فاقبلوا منهم الصلح وهو قوله تعالى فاجنح لها أي مل إليها يعني إلى المصالحة‏.‏ روي عن الحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف‏.‏ وقيل‏:‏ إنها غير منسوخة لكنها تتضمن الأمر بالصلح إذا كان فيه مصلحة ظاهرة فإن رأى الإمام أن يصالح أعداءه من الكفار وفيه قوة فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز أن يهادنهم عشر سنين ولا تجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة مدة عشر سنين ثم إنهم نقضوا العهد قبل انقضاء المدة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ يعني فوض أمرك إلى الله فيما عقدته معهم ليكون عوناً لك في جميع أحوالك ‏{‏إنه هو السميع‏}‏ يعني لأقوالهم ‏{‏العليم‏}‏ يعني بأحوالهم‏:‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك‏}‏ يعني يغدروا بك قال مجاهد‏:‏ يعني بني قريظة والمعنى وإن أرادوا بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم ‏{‏فإن حسبك الله‏}‏ يعني فإن الله كافيك بنصره ومعوته ‏{‏هو الذي أيدك بنصره‏}‏ يعني هو الذين قواك وأعانك بنصره يوم بدر وفي سائر أيامك ‏{‏وبالمؤمنين‏}‏ يعني وأيدك بالمؤمنين يعني الأنصار‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كان الله قد أيده بنصره فأي حاجة إلى نصر المؤمنين حتى يقول وبالمؤمنين‏.‏

قلت‏:‏ التأييد والنصر من الله عز وجل وحده لكنه يكون بأسباب باطنة غير معلومة وبأسباب ظاهرة معلومة فأما الذي يكون بالأسباب الباطنة فهو المراد بقوله ‏{‏هو الذي أيدك بنصره‏}‏ لأن أسبابه باطنة بغير وسائط معلومة وأما الذي يكون بالأسباب الظاهرة فهو المراد بقوله ‏{‏وبالمؤمنين‏}‏ لأن أسبابه ظاهرة بوسائط وهم المؤمنون والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو الذي أقامهم لنصره ثم بيَّن كيف أيده بالمؤمنين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم‏}‏ وذلك أن العرب كانت فيهم الحمية الشديد والأنفة العظيمة والأنفس القوية والعصبية والانطواء على الضغينة من أدنى شيء حتى لو أن رجلاً من قبيلة لطم لطمة واحدة قاتل عنه أهل قبيلته حتى يدركوا ثأرهم لا يكاد يأتلف منهم قلبان فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وآمنوا به واتبعوه انقلبت تلك الحالة فائتلفت قلوبهم واستجمعت كلمتهم وزالت حمية الجاهلية من قلوبهم وأبدلت تلك الضغائن والتحاسد بالمودة والمحبة لله وفي الله واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعواناً يقاتلون عنه ويحمونه وهم الأوس والخزرج وكانت بينهم في الجاهلية حروب عظيمة ومعاداة شديدة ثم زالت تلك الحروب وحصلت المحبة والألفة وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وصار ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة دالة على صدقه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي» وفي الآية لدليل على أن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء وأرادوا ذلك لأن تلك الألفة والمحبة إنما حصلت بسبب الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه سبحانه وتعالى ختم هذه الآية بقوله ‏{‏إنه عزيز حكيم‏}‏ يعني أنه تعالى قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب فيقلبها من العداوة إلى المحبة ومن النفرة إلى الألفة وكل ذلك على وجه الحكمة والصواب‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في إسلام عمر بن الخطاب قال سعيد بن جبير «أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية» فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال فعلى هذا القول أراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ يعني إلى غزوة بدر وقيل أراد بقوله ومن اتبعك من المؤمنين الأنصار وتكون الآية نزلت بالمدينة وقيل أراد جميع المهاجرين والأنصار، ومعنى الآية يا أيها النبي حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين وقيل معناه حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال‏}‏ يعني حثهم على قتال عدوهم‏.‏

والتحريض في اللغة‏:‏ الحث على الشيء بكثرة التزين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو الهلاك ‏{‏إن يكن منكم عشرون‏}‏ يعني رجلاً ‏{‏صابرون‏}‏ يعني عند اللقاء محتسبين أنفسهم ‏{‏يغلبوا مائتين‏}‏ يعني من عدوهم وظاهر لفظ الآية خبر ومعناه الأمر فكأنه تعالى قال إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في قتال عدوهم حتى يغلبوا مائتين ويدل على أن المراد بهذا الخبر الأمر قوله ‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ لأن النسخ لا يدخل على الإخبار إنما يدخل على الأمر فدل ذلك على أن الله سبحانه وتعالى أوجب أولاً على المؤمنين هذا الحكم وإنما حسن هذا التكليف لأن الله وعدهم بالنصر ومن تكفل الله له بالنصر سهل عليه الثبات مع الأعداء ‏{‏وإن يكن منكم مائة‏}‏ يعني صابرة ‏{‏يغلبوا ألفاً من الذين كفروا‏}‏ فحاصله وجوب ثبات الواحد من المؤمنين في مقابلة العشرة من الكفار، ذلك ‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏ يعني‏:‏ أن المشركين لا يقاتلون لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية فإذا صدقتموهم في القتال فإنهم لا يثبتون معكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

‏{‏الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله‏}‏ ‏(‏خ‏)‏‏.‏

عن ابن عباس‏:‏ قال لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مائتين ثم نزلت الآن خفف الله عنكم الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين‏.‏ وفي رواية أخرى عنه قال‏:‏ لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين شق ذلك على المسلمين فنزلت الآن خفف الله عنكم الآية فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم عن الصبر بقدر ما خفف عنهم فظاهر هذا أن قوله سبحانه وتعالى الآن خفف الله عنكم ناسخ لما تقدم من الآية الأولى وكان هذاالأمر يوم بدر فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقل ذلك على المؤمنين فنزلت الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفاً يعني في قتال الواحد للعشرة فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فرد من الشعرة إلى الأثنين فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فرّ ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏ يعني بالنصر والمعونة‏.‏

قال سفيان‏:‏ قال ابن شبرمة‏:‏ وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏}‏ روي عن عبد الله ابن مسعود قال‏:‏ لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تقولن في هؤلاء فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار‏.‏ وقال عمر‏:‏ يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ومكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، ومكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وقال عبد الله بن رواحة‏:‏ يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم ناراً فقال له العباس‏:‏ قطعت رحمك فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ثم دخل فقال‏:‏ «ناس يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس يأخذ بقول ابن رواحة» ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال‏:‏ فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال‏:‏ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ومثلك يا عمر مثل نوح قال‏:‏ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ومثلك يا عبد الله بن رواحة كمثل موسى قال‏:‏ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم»

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اليوم أنتم عالة فلن يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق» قال عبد الله بن مسعود‏:‏ إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم» حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إلا سهيل بن بيضاء‏.‏ قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب‏:‏ فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت‏:‏ يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكتي وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم» فإنزل الله عز وجل عليه‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ الآية خرج هذا الحديث الترمذي مختصراً وقال‏:‏ في الحديث قصة وهي هذه القصة التي ذكرها البغوي‏.‏ وأخرج مسلم في إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس‏:‏ لما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر‏:‏ ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأذخهم منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب قال قلت‏:‏ لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه وتمكنني من فلان- نسب لعمر- فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم» فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏}‏ فأحل الله الغنيمة لهم ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب من إفراد مسلم بزيادة فيه‏.‏

أما تفسير الآية، فقوله تعالى‏:‏ ما كان لنبي أن يكون له أسرى يعني ما كان ينبغي ولا يجب لنبي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك يا محمد والمعنى ما كان لنبي أن يحبس كافراً قدر عليه وصار في يده أسيراً للفداء والمن، والأسرى جمع أسير وأسارى جمع الجمع ‏{‏حتى يثخن في الأرض‏}‏ الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته‏.‏ يقال‏:‏ أثخنه المرض إذ اشتدت قوته عليه والمعنى حتى يبالغ في قتال المشركين ويغلبهم ويقهرهم فإذا حصل ذلك فله أن يقدم على الأسر فيأسر الأسارى ‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏ الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأخذكم الفداء من المشركين وإنما سمى منافع الدنيا عرضا لأنه لا ثبات لها ولا دوام فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة لإنها دائمة الانقطاع لها، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والله يريد الآخرة‏}‏ يعني انه سبحانه وتعالى يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصركم الدين لأنها دائمة بلا زوال ولا انقطاع ‏{‏والله عزيز‏}‏ لا يقهر ولا يغلب ‏{‏حكيم‏}‏ يعني في تدبير مصالح عباده‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان ذلك يوم بدر والمؤمنون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله سبحانه وتعالى في الأسارى فأما مناً بعد وإما فداء فجعل الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم وإن شاؤوا أعتقوهم‏.‏ قال الإمام فخر الدين‏:‏ إن هذا الكلام يوهم أن قوله فأما مناً بعد وإما فداء يزيل حكم الآية التي نحن في تفسيرها وليس الامر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان وكلتاهما تدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء‏.‏ قال العلماء‏:‏ كان الفداء لكل أسير أربعين أوقية والأوقية أربعون درهماً فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الفداء يومئذ لكل أسير أربعة ألاف درهم‏.‏

فصل

قد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء‏.‏

وبيانه من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن قوله ما كان لنبي أن يكون له أسرى صريح في النهي عن أخذ الأسارى وقد وجد ذلك يوم بدر‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقومه بقتل المشركين يوم بدر فلما لم يقتلوهم بل أسروهم دل ذلك على صدور الذنب منهم‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء وهو محرم وذلك ذنب‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قعدا يبكيان لأجل أخذ الفداء وخوف العذاب وقرب نزوله‏.‏

والجواب عن الوجه الأول‏:‏ أن قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض يدل على أنه كان الأسر مشروعاً ولكن بشرط الإثخان في الأرض وقد حصل لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قتلوا يوم بدر سبعين رجلاً من عظماء المشركين وصناديدهم وأسروا سبعين وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس فدلت الآية على جواز الأسر بعد الإثخان وقد حصل‏.‏

والجواب عن الوجه الثاني‏:‏ أن الأمر بالقتل إنما كان مختصاً بالصحابة لإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بمشارة قتال الكفار بنفسه وإذا ثبت أن الأمر بالقتل كان مختصاً بالصحابة كان الذنب صادراً منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والجواب عن الوجه الثالث‏:‏ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء وهو محرم فنقول لا نسلم أن أخذ الفداء كان محرماً وأما قوله سبحانه وتعالى تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ففيه عتاب لطيف على أخذ الفداء من الأسارى والمبادرة إليه ولا يدل على تحريم الفداء إذ لو كان حراماً في علم الله لمنعهم من أخذه مطلقاً‏.‏

والجواب عن الوجه الرابع‏:‏ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قعدا يبكيان يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف الأمر بالقتل واستغل بالأسر استوجب بذلك الفعل العذاب فبكى النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً وإشفاقاً من نزول العذاب عليهم بسبب ذلك الفعل وهو الأسر وأخذ الفداء والله أعلم‏.‏